مجلس الدولة المصري -القضاء الإداري
المبادئ التي قررتها المحكمة الإدارية العليا “دائرة توحيد المبادئ” – في شأن تأديب الموظف
أبريل 18, 2020
مجلس الدولة المصري -القضاء الإداري
توحيد المبادئ – غير منشور- ، الطعن رقم 43714 لسنة 60 القضائية . (عليا)
أبريل 18, 2020

توحيد المبادئ – غير منشور- ، الطعن رقم 57818 لسنة 60 ق. (عليا)

مجلس الدولة المصري - القضاء الإداري

حكم دائرة توحيد المبادئ فى الطعن رقم 57818 لسنة 60 ق. عليا بجلسة 4/5/2019

المبادئ المستخلصة:

اختصاص الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بنظر النزاعات:

الاختصاص المعقود للجمعية العمومية بنظر المنازعات الإدارية طبقا لنص المادة 66/د من قانون مجلس الدولة هو اختصاص مانع لا تشاركها فيه أية جهة قضائية أخرى- أساس ذلك أن المشرع قد استبعد الدعوى كوسيلة للمطالبة بالحق بين الجهات الإدارية، وهي تقابل الخصومة القضائية، واستبدل بها عرض المطالبات فيما بين هذه الجهات على الجمعية العمومية للفصل فيها برأي ملزم، فهي بمثابة المحكمة المختصة بنظر المنازعات بين الجهات الإدارية، وهو اختصاص ولائي أصيل يتعلق بولاية فصل في أنزعة ذات طبيعة خاصة، فهي صاحبة ولاية الفصل في جميع منازعات الجهات الإدارية، واختصاصها بالفصل فيها هو نظام بديل للاختصاص القضائي المنوط بالمحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وهو اختصاص متعلق بالنظام العام غير جائر الاتفاق على مخالفته، وتفصل الجمعية العمومية في النزاع برأي ملزم للجانبين، تستنفد ولايتها بإصداره، ولم يعط المشرع لجهة ما حق التعقيب على ما تنتهي إليه، ولا يجوز معاودة طرحه مرة أخرى، حتى لا يتجدد النزاع إلى ما لا نهاية، مما لا مندوحة من وجوب انصياع الجهات الإدارية إلى تنفيذ رأي الجمعية وعدم مخالفته أو الامتناع عن تنفيذه- القول بغير ذلك ينطوي على التفاف على قواعد الاختصاص وإفراغ النص الذي وسد ولاية الفصل في المنازعات بين الجهات الإدارية للجمعية العمومية من مضمونه، وإهدار فلسفة التشريع التى تغياها المشرع من إسناد ذلك الاختصاص للجمعية، فضلا عما للاشتراك في الاختصاص من مثالب، أقلها التعارض في تأصيل المبادئ القانونية التي تحكم الأنزعة التي تثار بين الجهات الإدارية، فضلا عما قد يحدث من اختلاف أو تعارض فيما ينتهى إليه الفصل فى النزاع – سواء برأي ملزم أو حكم في نزاع ذى طبيعة واحدة-  لئن لم يسبغ المشرع على الجمعية العمومية ولاية القضاء في المنازعات التي تقوم بين فروع السلطة التنفيذية وهيئاتها، وإنما عهد إليها بمهمة الإفتاء فيها بإبداء الرأي مسببا على ما يفصح عنه النص، وهذا الرأي الملزم لا يتجاوز حد الفتوى ولا يرقى إلى مرتبة الأحكام القضائية بالمعنى الفني الدقيق، كما أن هناك فارقا كبيرا بين الحكم الذي يصدر عن جهة وسد إليها المشرع ولاية القضاء، وقرار يصدر عن هيئة لم يُضف عليها هذه الولاية؛ إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، فإن الحكم والقرار يستويان في ميزان العدالة وآثارهما واحدة، وهي إقرار الحقوق لأصحاب الشأن، أو لأي من طرفي النزاع سواء في الأنزعة بين الأفراد العاديين (أشخاص القانون الخاص)، أم المنازعات الإدارية التي تكون الإدارة خصما فيها، أم بين جهات الإدارة بعضها البعض.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

باسم الشعب

مجلس الدولة

المحكمة الإدارية العليا

       دائرة توحيد المبادئ

      ****************

 

بالجلسة المنعقدة علناً فى يوم السبت الموافق 4/5/2019 م

برئاسة السيد الأستاذ المستشار / أحمد عبد العزيز إبراهيم أبو العزم

                                                            رئيس مجلس الدولة ورئيس المحكمـــة

 

وعضـوية السـادة الأسـاتذة المستشارين/ محمد محمود فرج حسام الدين وأنور أحمد إبراهيم خليل وناجى سعد محمد محمود الزفتاوى وتوفيق الشحات السيد محجوب وعبد الرحمن سعد محمود عثمان ود. محمد ماهر أبو العينين ومحمد حجازى حسن مرسى وحسن سيد عبد العزيز ود. حسنى درويش عبد الحميد درويش وسعيد سيد أحمد القصير.

                                                                         نــواب رئيس مجلس الدولـة

 

بحضور السيد الأستاذ المستشار / رجب عبد الهادى محمد تغيان

                                                         نائب رئيس مجلس الدولة ومفوض الدولة                   

وسكرتارية السيد / كمال نجيب مرسيس                سكرتير المحكمة                                         

***********************

 

    أصدرت الحكم الآتي:

فى الطعن رقم 57818 لسنة 60 ق. عليا

    المقـــــــــام من/

الممثل القانوني لبنك الاستثمار القومى

ضــــــــــــــــد /

                         رئيس الهيئة القومية لسكك حديد مصر

 

 

فى الحكم الصادر من محكمة القضاء الإدارى ( دائرة العقود الإدارية )

بجلسة 24/6/ 2014 فى الدعوى رقم 11112/67 ق

    ***********************

 

 

الإجــــــــــــــراءات

***************

 بتاريخ 20/8/2014 أودع الأستاذ/ أحمد فؤاد محمد صالح المحامى بصفته وكيلاً  عن الطاعن قلم كتاب المحكمة الإدارية العليا تقريراً بالطعن الماثل، طعناً فى الحكم الصادر من محكمة القضاء الإدارى والقاضى منطوقُه ” بعدم اختصاص المحكمة ولائياً بنظر الدعوى،  مع إلزام البنك المدعى المصروفات .  “

     وطلب الطاعن – للأسباب الواردة بتقرير الطعن – الحكم بقبول الطعن شكلاً، وفى الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه والقضاء مجدداً بصحة اختصاص محكمة القضاء الإدارى بنظر النزاع المعروض وإلزام المطعون ضده المصروفات عن درجتى التقاضى .

    وتدوول نظر الطعن أمام الدائرة الثالثة (فحص) بجلسة 7/2/2018، وفيها قررت إحالته إلى الدائرة الثالثة (موضوع) لنظره بجلسة 8/5/2018.

وجرى تداول نظر الطعن أمام هذه الدائرة ، على النحو الثابت بمحاضر جلساتها، وبجلسة 22/5/2018 قررت الدائرة إحالة الطعن إلى دائرة توحيد المبادئ المنصوص عليها في المادة 54 مكرراً من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972، المضافة بالقانون رقم 136 لسنة 1984 ، لترجيح أياً من الاتجاهين بالمحكمة الإدارية العليا بشأن طبيعة اختصاص هيئة الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع بمجلس الدولة في المنازعات التي نص عليها البند (د) من المادة 66 من قانون مجلس الدولة: الاتجاه الأول: يذهب إلى أن الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع هي الجهة الوحيدة المختصة بنظر المنازعات المثارة بين الجهات الإدارية طبقاً لحكم المادة 66/ د سالفة البيان، دون سواها، مما مؤداه عدم أحقية الجهات الإدارية في اللجوء إلى القضاء لعرض نزاعاتها مع جهات إدارية أخرى للفصل فيها، بحسبان أن الاختصاص الذى ناطه المشرع لها بالفصل في المنازعات عن الجهات الإدارية اختصاص شامل لا يشاركها فيه أية جهة إدارية أو قضائية .

الاتجاه الثانى: وينهض على سند من أن هيئة الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع لا تعد من جهات القضاء أو الجهات ذات الاختصاص القضائى . وعلى ذلك فإن الاختصاص المعقود لهيئة الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع طبقاً لحكم المادة 66/ د من قانون مجلس الدولة المشار إليه، ليس بديلاً عن اللجوء إلى إقامة الدعوى القضائية كوسيلة لحماية الحقوق وفض المنازعات.

وقد عينت لنظر الطعن أمام دائرة توحيد المبادئ جلسة 13/10/٢٠١٨، حيث جرى تداوله، على النحو المبين بمحاضر الجلسات، حيث أودعت هيئة مفوضى الدولة لدى الدائرة تقريراً مسبباً ارتأت فيه ترجيح الاتجاه الوارد بأحكام المحكمة الإدارية العليا ( في الطعن رقم 11/12/48 ق.ع جلسة 30/3/2010 والطعن رقم 5582/49 ق.ع ، جلسة 25/5/2013 ) والذى من مقتضاه اختصاص الجمعية العمومية بنظر منازعات الجهات الإدارية طبقاً لنص المادة 66/ د من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972 . وبجلسة 2/2/2019 قررت الدائرة إصدار الحكم فيه بجلسة 2/3/2019 ، وفيها قررت مد أجل النطق بالحكم لجلسة اليوم ، وفيها صدر وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه عند النطق به .

 

المحكمــــــــــــــة

***********

بعد الاطلاع على الأوراق، وسماع الإيضاحات، وبعد المداولة قانوناً.

وحيث إن عناصر المنازعة تخلص – حسبما ما هو ثابت بالأوراق – في أن الطاعن (الممثل القانوني لبنك الاستثمار القومى)، (1) كان قد أقام دعواه ابتداءً أمام المحكمة الاقتصادية بالقاهرة بموجب طلب مقدم للقاضى المختص بإصدار أوامر الأداء بالمحكمة قيد الأمر برقم 104 لسنة 2011 وذلك لاستصدار أمر أداء بمبلغ 7.350.000.000 (سبعة مليارات وثلاثمائمة وخمسون مليون جنيه) مستحق الدفع بموجب سند أذنى بتاريخ 3/6/2008 ، بالإضافة للفوائد القانونية بنسبة 13% من تاريخ الاستحقاق إلى تاريخ السداد، مع غرامة تأخير بواقع 3% وإلزام المطعون ضده المصروفات.

     وإيضاحاً لذلك سطر البنك الطاعن ما حاصله أن الهيئة المطعون ضدها قد أبرمت معه عقد قرض لتنفيذ بعض المشروعات المدرجة بالخطة الاقتصادية والاجتماعية للدولة وكانت قد حررت سنداً اذنياً لضمان سداد الدين وقيمة هذا السند 7.350.000.000 جنيه وهذا السند مستحق الدفع بتاريخ ٣٠/٦/٢٠٠٨ولم تقم الهيئة بدفع قيمة السند الأذني المشار إليه، مما حدا بالبنك إلى اللجوء إلى القاضي المختص بإصدار أوامر الدفع بالمحكمة الاقتصادية لاستصدار أمر أداء بقيمة السند، بالإضافة للفوائد القانونية بنسبة ١٣ % من تاريخ الاستحقاق حتى تاريخ السداد مع غرامة تأخير بواقع ٣% .

وبجلسة ٢٥/٩/٢٠١٢ قضت المحكمة بعدم اختصاصها ولائيا بنظر الدعوى وإحالتها بحالتها إلى محكمة مجلس الدولة المختصة بالقاهرة وأبقت الفصل في المصروفات.

ونفاذاً لذلك القضاء أحيلت الدعوى إلى محكمة القضاء الإداري (دائرة العقود الإدارية)، حيث قيدت بجدولها العام برقم ١١١١٢ لسنة ٦٧ ق، وتداولت المحكمة نظر الدعوى بجلساتها، وبجلسة ٢٤/٦/٢٠١٤ قضت بعدم اختصاص المحكمة ولائياً بنظر الدعوى وإلزام البنك المدعي المصروفات.

وشيدت المحكمة قضاءها تأسيساً على أن الثابت من الاطلاع على أوراق الدعوى أن بنك الاستثمار القومي قد أقرض هيئة سكك حديد مصر مبلغ من المال وأنه قد نشأ نزاع بين البنك والهيئة وهما من أشخاص القانون العام، ولما كان النزاع ينحصر بين جهتين إداريتين، فمن ثم تختص الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة بنظر النزاع الراهــن،

   ــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • إن المشرع بموجب القانون رقم 199 لسنة 1980 بشأن بنك الاستثمار القومى، أنشئ بنكاً ذا شخصية اعتبارية، خوله إدارة أمواله، وأنشأ له موازنة خاصة، وبوصفه شخصاً عاماً استجمع مقومات الهيئة العامة من الناحية الموضوعية، إذ يقوم على إدارة مرفق عام يتوخى به اشباع أغراض بذواتها تقتضيها طبيعة نشاطه والهدف من إنشائه، من ثم يدخل في عداد الأشخاص العامة. (فتوى الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع، رقم 372 بتاريخ 11/1/2005 – ملف 32/5/3476 جلسة 2/2/2005).

عملا بحكم المادة ٦٦/ د من قانون مجلس الدولة، وينحسر –  تبعاً لما تقدم – عن محاكم مجلس الدولة الاختصاص بنظر مثل هذه المنازعات، الأمر الذي يتعين معه القضاء بعدم اختصاص المحكمة ولائياً بنظر الدعوى دون جواز الإحالة للجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع، إذ يتعين عرض الموضوع عليها من صاحب الصفة في ضوء حكم المادة (٦٦) من قانون مجلس الدولة سالفة البيان، ذلك لأن الإحالة تكون بين محكمتين، ومن ثم خلصت المحكمة إلى حكمها المطعون فيه آنف البيان.

وإذ لم يلق الحكم المطعون فيه قبولاً لدى الطاعن، فقد أقام طعنه الماثل، على سند أن الحكم المطعون فيه انطوى على مخالفة القانون والخطأ في تطبيقه وتأويله وشابه القصور في التسبيب والفساد في الاستدلال والإخلال بحق الدفاع، ذلك أن المشرع لم يضع قيداً يحول بين الجهات الإدارية وبين اللجوء إلى جهة القضاء للحصول على حكم قضائي، وإذ لم يأخذ الحكم المطعون فيه بهذا الاتجاه وقضى بعدم الاختصاص بنظر النزاع، فمن ثم يغدو مخالفاً للقانون حرياً بالإلغاء، وخلص الطاعن إلى طلب الحكم له بطلباته سالفة البيان.

وقد ورد الطعن الماثل إلى هيئة مفوضي الدولة لدى المحكمة الإدارية العليا (الدائرة الثالثة)، حيث أودعت تقريراً ارتأت فيه الحكم “بقبول الطعن شكلاً، ورفضه موضوعاً، وإلزام الطاعن المصروفات”.

وجرى نظر الطعن أمام دائرة فحص الطعون بالدائرة الثالثة عليا ،وبجلسة ٧ /٢/٢٠١٨ قررت الدائرة إحالة الطعن إلى المحكمة الإدارية العليا – الدائرة الثالثة (موضوع) لنظره بجلسة ٨/٥/٢٠١٨.

وتدوول نظر الطعن أمام هذه الدائرة، على النحو المبين بمحاضر جلساتها، وبجلسـة ٢٢/٥/ ٢٠١٨ قررت أولاً: إحالة الطعن الماثل إلى دائرة توحيد المبادئ المنصوص عليها في المادة (٥٤) مكرراً من قانون مجلس الدولة الصادر بالقانون رقم ٤٧ لسنة ١٩٧٢، المضافة بالقانون رقم ١٣٦ لسنة ١٩٨٤ للفصل في هذا الموضوع، ثانياً: وقف الفصل في هذا الطعن تعليقاً لحين الفصل في المسالة المعروضة على دائرة توحيد المبادئ.

 

وحيث إن المسألة القانونية المثارة في الطعن الماثل تدور حول مدى اختصاص الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة بالفصل في المنازعات بين الجهات المنصوص عليها في المادة ٦٦/ د من قانون مجلس الدولة رقم ٤٧ لسنة ١٩٧٢، وما إذا كان اختصاصها محجوزاً لها وموقوفاً عليها دون مشاركة جهات القضاء فيه أم لا؟

حيث إن المادة (١٩٠) من الدستور المعدل لعام 2019 تنص على أن: “مجلس الدولة جهة قضائية مستقلة، يختص دون غيره بالفصل في المنازعات الإدارية…..”.

وتنص المادة (١٠) من قانون مجلس الدولة المشار إليه على أن: “تختص محاكم مجلس الدولة دون غيرها في المسائل الأتية: أولاً: …….. ثانياً: …….. رابع عشر: سائر المنازعات الإدارية”. وتنص المادة (٦٥) على أن: “تشكل الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع برئاسة نائب رئيس المجلس وعضوية نواب رئيس المجلس بقسمي الفتوى والتشريع ومستشاري قسم التشريع ورؤساء إدارات الفتوى”.

وتنص المادة (٦٦) على أن: “تختص الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بإبداء الرأي في المسائل الآتية: أ- ……………………………………….

ب – ……………………………………….

جـ – ……………………………………………..

د – المنازعات التي تنشأ بين الوزارات أو بين المصالح العامة أو بين الهيئات العامة أو بين المؤسسات العامة أو بين الهيئات المحلية أو بين هذه الجهات وبعضها البعض، ويكون رأي الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع في هذه المنازعات ملزماً للجانبين “.

وحيث إن مفاد ما تقدم من النصوص، إن الشارع في إطار تعيين الاختصاص القضائي (الولائي أو الوظيفي) لمجلس الدولة بنظر المنازعات الإدارية بحسبانه صاحب الولاية العامة في هذا الشأن، وبوصفه قاضي القانون العام في المنازعات الإدارية، عهد إلى الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع اختصاص نظر النزاعات بين الجهات الإدارية التي عناها المشرع في نص الفقرة (د) من المادة (٦٦) من قانون مجلس الدولة، والفصل فيها برأى ملزم. والاختصاص المعقود للجمعية العمومية بالفصل فى تلك المنازعات هو اختصاص ولائــي (compétence juridictionnelle)، أو مــا يعـرف بالاختصاص المحجـوز                  (La compétence réservée)، أو الاختصاص الحصري ( La compétence exclusive).

ومؤدى ذلك أن المشرع أختص الجمعية العمومية وحدها ودون سواها ولاية الفصل في الأنزعة بين الجهات الإدارية دون مشاركة من جهات القضاء الأخرى، وهي أنزعة ذات طبيعة خاصة مقدرة بخصوصية الطبيعة القانونية للمتنازعين، تلك الطبيعة التي تتأبى عرض تلك الأنزعة على جهات القضاء المختلفة لوحدة الشخص القانوني للمتنازعين المنسوب انتهاءً إلى الشخصية القانونية للدولة في مثل تلك الأنزعة، الأمر الذي ينحصر معه الاختصاص الولائي للجمعية على محض تلك التي تثور بين الجهات الإدارية المنصوص عليها في المادة ٦٦/ د من قانون مجلس الدولة فحسب، وتفصل في النزاع برأي ملزم للجانبين حسماً لأوجه النزاع وفصل الخطاب فيها، ولم يعط لجهة ما حق التعقيب، على ما تنتهي إليه، وتستنفد ولايتها بإصداره ولا يجوز معاودة طرحه مرة أخرى، حتى لا يتجدد النزاع إلى ما لا نهاية، مما لا مندوحة من وجوب انصياع الجهات الإدارية إلى تنفيذ رأي الجمعية وعدم مخالفته      أو الامتناع عن تنفيذه.

ومقتضى ما تقدم أن الجمعية العمومية صاحبة ولاية الفصل في كافة منازعات الجهات الإدارية، واختصاصها بالفصل فيها وهو نظام بديل للاختصاص القضائي المنوط بالمحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، حيث اقتضت اعتبارات التنظيم الإداري للدولة والمصلحة العامة النأي بهذه المنازعات عن اختصاص القضاء، لتحسم بالرأي الذي تصدره الجمعية العمومية فيها، تنزيهاً للجهات الإدارية من اللدد في الخصومة الذي غالباً ما يصاحب منازعات الأفراد أمام المحاكم، إلى جانب السرعة في حسم النزاع بين هذه الجهات، لكونها تقوم على رعاية مصالح عامة من شأنها أن تتأثر بطول إجراءات التقاضي.

والقول بغير ذلك ينطوي على التفاف على قواعد الاختصاص وإفراغ النص الذي وسد ولاية الفصل في المنازعات بين الجهات الإدارية للجمعية العمومية من مضمونه، وإهدار فلسفة التشريع التى تغياها المشرع من اسناد ذلك الاختصاص للجمعية، على ما سبق القول، فضلاً عن الرغبة في عدم شغل جهات القضاء بمنازعات تنشأ بين ممثلين مختلفين لشخص واحد وهو الدولة، وبالتالي استبعد المشرع الدعوى كوسيلة للمطالبة بالحق بين الجهات الإدارية – وهي تقابل الخصومة القضائية – واستبدل بها عرض المطالبات فيما بين هذه الجهات على الجمعية العمومية للفصل فيها برأي ملزم، على ما سلف بيانه.

وبناءً على ما تقدم، فإن الاختصاص المنوط بالجمعية العمومية بنظر المنازعات بين الجهات الإدارية – طبقاً للاتجاه الأول – إنما يستند إلى الأسس والمبادئ الآتية:

أولاً: أن الاختصاص المعقود للجمعية العمومية محجوز لها ووقوفاً عليها، لا يشاركها فيه جهات القضاء المختلفة، نزولاً على إرادة المشرع، فالأخير وحده له مكنة تحديد الاختصاص الولائي بالمنازعات وليس لغيره – كائناً من يكون – أن يتفق على خلاف ذلك، سواء بنزع قدر مما اختصت به الجمعية العمومية في هذا الشأن، أو إضافة قدر آخر خلاف لما اختصت به.

ثانياً: أن الاختصاص الولائي للجمعية العمومية، إنما هو اختصاص متعلق بالنظام العام غير جائر الاتفاق على مخالفته، فإن وقع هذا الاتفاق كان باطلاً فلا تصححه إجازة ولا يرد عليه قبول.

ثالثاً: إلزامية وحتمية ولوج الجهات الإدارية التي عناها المشرع في المادة ٦٦/ د من قانون مجلس الدولة إلى الجمعية العمومية فيما يثور بينها من أنزعة، حسماً لها برأي ملزم للجانبين، وذلك بديلاً عن الدعوى كوسيلة للمطالبة بالحق بين الجهات الإدارية.

وحيث إنه عن الاتجاه الآخر وقوامه أن الجمعية العمومية لا تعد من جهات القضاء    أو الجهات ذات الاختصاص القضائي، وبالتالي لا يعد اللجوء إليها بديلاً عن إقامة الدعوى القضائية كوسيلة لحماية الحقوق وفض المنازعات.

وحيث إنه – وللوهلة الأولى – أن هذا الاتجاه يظاهره الفساد في أساسه وما خلص إليه من نتائج.

فمن من المقطوع به، ولا خلف في أن الجمعية العمومية ليست من جهات القضاء، آية ذلك أن المشرع – وبحق – لم يسبغ عليها ولاية القضاء في المنازعات التي تقوم بين فروع السلطة التنفيذية وهيئاتها، فالجمعية العمومية بحكم ما وسد لها من اختصاص وبحسب طبيعتها وطريقة تشكيلها من شيوخ قضاة مجلس الدولة ممن لهم خبرة وباع طويل في مجال العمل القضائي، ووسائل اتصالها بالمنازعات، وما يصدر عنها من رأي ملزم بمناسبة ما يعرض عليها من منازعات، لا تتبع الإجراءات التي رسمها قانون المرافعات أو أية قواعد إجرائية أخرى تقوم مقامها وتتوافر لها سمات وإجراءات التقاضى وضماناته، وأنه على الرغم من ذلك، فإن المشرع أختصها بنظر تلك المنازعات.

ويأتي ذلك من منطلق اعتبارات مؤسسية، تجمل في أن الجهات الإدارية فروع للسلطة التنفيذية وتنتمي إلى شخص عام واحد، وأخرى قانونية وعملية، إذ من غير المتصور أن الشخص القانوني الواحد يقاضى نفسه من خلال فرعين له، فضلاً عن حسم النزاعات سريعاً عملاً بمبدأ حسن سير المرافق العامة بانتظام واطراد، حيث يتأبى عرض تلك الأنزعة على جهات القضاء المختلفة وتجنب مضيعة الوقت والجهد والمال في منازعات لا طائل من ورائها وتأكيداً على حسن سير الإدارة الحكومية، وتفرغ الجهات الإدارية نحو بلوغ الغايات المنشودة في إطار السياسة العامة للدولة، وهي اعتبارات تسمو على ما عداها.

وإذا كانت إرادة المشرع – وهو منزه عن الخطأ – قاطعة الدلالة على اختصاص الجمعية العمومية بولاية الفصل في المنازعات بين الجهات الإدارية – على الرغم من أنها ليست من جهات القضاء – فإن هذا الاتجاه – في أساسه – غير سديد.

وحيث إنه وتأسيساً على ذلك، فإن ما تضمنه هذا الاتجاه – فى شطره الآخر – من أن اللجوء إلى الجمعية العمومية ليس بديلاً عن اللجوء إلى القضاء، مؤداه حجب الاختصاص كلية عن الجمعية العمومية أو على الأقل المشاركة فى اختصاصها، فهذا القول محل نظر كبير للأسباب الآتية :

أولاً : الإفتئات على اختصاص الجمعية العمومية فيما عقد لها – بموجب القانون – ولاية الفصل فى المنازعات التى تثور بين الجهات الإدارية وبعضها البعض بوصفها جميعاً تنبثق من شخص الدولة، وهو اختصاص ولائى، لا يشاركها فيه أية جهة قضائية أخرى، وهو اختصاص مانع مستمد من صحيح القانون.وهى بمثابة المحكمة المختصة بنظر المنازعات بين الجهات الإدارية، مما اقتضى إبعاد المشرع هذه المنازعات عن نطاق المحاكم العادية والإدارية معاً، تنزيهاً للجهات الإدارية من الانخراط فى لدد الخصومة، ومنع استطالة أمدها تحقيقاً للصالح العام ، سيما وأن ما يثار بينها من منازعات لا تخرج – فى الأغلب الأعم من الحالات – عن كونها نزاع مالى يئول فى نهاية الأمر إلى الخزانة العامة، أو فى أملاك الدولة، مما لا ينسجم معه لجوؤها إلى التقاضى فيما بينها، وإنما يكون لزاماً حسم خلافاتها على النحو الذى رسمته وحددته الفقرة (د) من المادة (66) سالفة الذكر.

ثانياً : إهدار فلسفة التشريع والحكمة التى توخاها المشرع من إسناد ولاية الفصل فى المنازعات التى تثور بين الجهات الإدارية إلى الجمعية العمومية، على ما سلف القول، إضافة إلى إغفال طبيعة تلك المنازعات ،وكونها – فى الأساس – أنزعة إدارية بين أشخاص القانون العام إذ ليس ثمة موجب لعرضها على ساحات القضاء، وخاصة وأن محصلة الفصل فيها يئول فى نهاية المطاف إلى الدولة الشخص الاعتباري العام.

ثالثاً : إن مسايرة هذا الاتجاه – فى ظل غياب النص – على عكس الحال فى شأن الاتجاه الأول – فضلاً عن عدم تعيين جهة القضاء التى يستعاض بها عن اختصاص الجمعية العمومية، إنما يفتح الباب واسعاً أمام اجتهادات الجهات الإدارية، فالبعض يعتصم بنص المادة 66/د، والبعض الآخر قد يرى عكس ذلك، ويفضى هذا الوضع إلى نتائج غير مستساغة عقلاً ومنطقاً، بل وواقعاً وقانوناً، تتلخص فى الآتى :

  • جعل اللجوء إلى الجمعية العمومية رهن بإرادة أطراف النزاع (الجهات الإدارية)، فلها أن تلجأ وفقاً لمشيئتها إما إلى الجمعية العمومية للفصل فى النزاع أو اللجوء إلى جهة قضائية أخرى، وهو أمر لا يستقيم قبوله أو التسليم به، إذ لا دخل لإرادة أطراف النزاع فى شأن تحديد الجهة صاحبة الولاية التى وسد المشرع إليها الفصل فى المنازعات بين الجهات الإدارية، بحسبان أن الاختصاص متعلق بالنظام العام، ولا يملك أطراف النزاع الاتفاق أو التراضى على خلافه.
  • جعل اختصاص الفصل فى المنازعات بين الجهات الإدارية مشاركة بين الجمعية العمومية وأية جهة قضائية أخرى – سواء أكانت القضاء الإداري أم القضاء العادى – ولا يخفى ما فى هذا الاشتراك فى الاختصاص من مثالب، أقلها التعارض فى تأصيل المبادئ القانونية التى تحكم الأنزعة التى تثور بين الجهات الإدارية، فضلاً عما قد يحدث من اختلاف أو تعارض فيما ينتهى إليه الفصل فى النزاع – سواء برأى ملزم أو حكم – فى نزاع ذى طبيعة واحدة، مما يؤدى إلى خلق حالة من الاضطراب فى تقديرات الجهات الإدارية، أو ترتيب أوضاعها.

ولا يناقض ما تقدم ، صدور حكمين من المحكمة الدستورية العليا، الأول فى الدعوى رقم 15 لسنة 1 تنازع، بجلسة 17/1/1981، و الثانى فى الدعوى رقم 8 لسنة 15 تنازع بجلسة 4/6/1994، وينهض الحكمان على سند من أن الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع بمجلس الدولة لا تصدر أحكاماً قضائية، وأن مناط قبول طلب التنازع هو أن يقوم النزاع بشأن تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين، والرأي الذى تبديه الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع لا يعد حكماً، فإنه يتعين عدم قبول الدعوى، ذلك أن ما انتهت إليه المحكمة إنما يتوافق مع صريح نص المادة 66/د من قانون المجلس، فالمشرع لم يسبغ على الجمعية العمومية ولاية القضاء فى المنازعات التى تقوم بين فروع السلطة التنفيذية وهيئاتها، وإنما عهد إليها بمهمة الإفتاء فيها بإبداء الرأي مسبباً على ما يفصح عنه النص، وهذا الرأى الملزم لا يتجاوز حد الفتوى ولا يرقى إلى مرتبة الأحكام القضائية بالمعنى الفنى الدقيق، كما أن ثمة فارقاً كبيراً بين الحكم الذى يصدر عن جهة وسد إليها المشرع ولاية القضاء، وقرار يصدر عن هيئة لم يُضف عليها هذه الولاية، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، فإن الحكم والقرار يستويان فى ميزان العدالة وآثارهما واحدةً، وهى إقرار الحقوق لأصحاب الشأن، أو لأى من طرفى النزاع سواء فى الأنزعة بين الأفراد العاديين (أشخاص القانون الخاص)، أو المنازعات الإدارية التى تكون الإدارة خصم فيها أو بين جهات الإدارة بعضها البعض.

وحيث إنه فى ضوء ما تقدم، وفى مقام الموازنة والترجيح بين الاتجاهين السالف الإلماع إليهما، يتضح جلياً، أن الاتجاه الأول له الغلبة والصدارة، بحكم ما يظفر به من سند تشريعي وفلسفة وحكمة تغياها المشرع ،على النحو المتقدم ذكره، إضافة إلى جملة اعتبارات مؤسسية وقانونية وعملية يستظل بها جميعاً فى مواجهة الاتجاه الآخر، الذى بنيَّ على أساس فاسد، فانهارت قواعده، فصار ركاماً، وهو والعدم سواء، أو بمعنى آخر، لا يستوي سوياً على سند صحيح، ونتائجه ثمار جوفاء لا تثمن ولا تغنى من جوع.

” فلهـــذه الأسـبـــاب “

—————

حكمت المحكمة: بترجيح الاتجاه الذى من مقتضاه أن الاختصاص المعقود للجمعية العمومية بنظر المنازعات الإدارية طبقاً لنص المادة 66/ د من قانون مجلس الدولة هو اختصاص مانع لا تشاركها فيه أية جهة قضائية أخرى، وهو اختصاص أصيل ولائى يتعلق بولاية فصل فى أنزعة ذات طبيعة خاصة، وعلى النحو المبين بالأسباب، وأمرت بإعادة الطعن إلى الدائرة المختصة بالمحكمة الإدارية العليا، للفصل فيه على هدى ما تقدم.

Comments are closed.

xnxxbf